«زيزينيا»
سكنه أمراء الأسرة العلوية وأثرياء الجاليات الأجنبية
لم تكن عائلة أبو شال تعلم أن ما باعته من أراضيها في نهايات القرن الـ19 للكونت اليوناني زيزينيا سيصبح أرقى أحياء الإسكندرية، الذي يقع ما بين منطقتي جليم وسان ستيفانو. فبعد أن بنى زيزينيا قصره في منطقة رمل الإسكندرية، التي كانت في الماضي ضاحية الرمال والجمال، تحول الحي إلى إمبراطورية من القصور والفيللات الفخمة التي تقطنها كبرى العائلات الأرستقراطية في مصر والعالم العربي.
كان استيفان زيزينيا قد أغرم بمنطقة مرتفعة برمل الإسكندرية فكان أول الأجانب الذين سكنوا تلك المنطقة، وبنى قصرا مهيبا يشبه قصور «ألف ليلة وليلة»، في حين أن باقي سكانها كانوا من الأعراب، ويرجح أن زيزينيا كان قد جاء إلى مصر هربا من مذابح الأتراك، وعمل بتجارة القطن، وكان أحد المقربين من الأسرة العلوية حيث منح أراضي كثيرة في القطر المصري، وقد شيد كنيسة سان ستيفانو التي تهدمت في الثمانينات، وكذلك كازينو سان ستيفانو عام 1887.
وقد تحول قصر زيزينيا إلى فندق «جلوريا أوتيل»، ثم اشتراه الأمير محمد علي وأعاد بناءه عام 1927 وأطلق عليه اسم «قصر الصفا»، وهو الاسم الحالي له، الذي دخل ضمن القصور الرئاسية وهو معد لاستقبال ضيوف الرئاسة أو كبار الوزراء ورجال الدولة أثناء وجودهم في الإسكندرية.
ويقف على مقدمة الحي من جهة الكورنيش قصر أنيق هو قصر عزيزة فهمي، يليه قصر مظلوم باشا ومكانه كليه الفنون الجميلة حاليا، ثم قصر عدلي يكن باشا (رئيس وزراء مصر في العشرينات)، فقد كان الحي في الماضي يتكون من عدد قليل من القصور الفاخرة وكثبان رملية ومجموعات من الأعراب، وكانت هناك أراضي فضاء مخصصة للعب كرة القدم لطلبة المدارس الأجنبية في أوائل القرن العشرين.
ولا يزال التجول في الحي نزهة محببة، حيث تندر به المحال التجارية، حتى إن التجول به يشبه السير في «بيفرلي هليز» من حيث روعة الحدائق الخاصة التي تزينه، ويكفي التجول بناظريك لكي تتعلق عيناك بتفاصيل الزخارف المعمارية التي تعلو قصور الحي التي سكنها في الماضي أمراء الأسرة العلوية إلى جانب الإنجليز والإيطاليين واليونانيين.
لا يعرف حي زيزينيا الزحام سوى من بعض الأفواج السياحية التي كانت تأتي لزيارة «قصر المجوهرات الملكية»، الذي كانت تملكه الأميرة فاطمة الزهراء حفيدة محمد علي باشا، والذي اتخذته مصيفا لها وأصبح في ما بعد متحفا يعتبر أهم وأثمن متاحف مصر بما يحويه من كنوز. وقد شيد القصر المعماري الإيطالي الكبير أنطونيو لاشياك مع المهندس المصري علي فهمي على مساحة 4185 مترا مربعا.
ويعد القصر تحفة معمارية فريدة تضم 11 ألفا و500 قطعة، ويضم مجموعة تحف أثرية تخص محمد علي باشا، ومجموعة جواهر الأميرات، وهي مشغولة بالذهب ومرصعة بالماس، ومجموعة الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق والزوجة الأولى لشاه إيران رضا بهلوي. وهو مغلق حاليا بعد جرد مقتنياته لحين تسليمه للرئاسة مرة أخرى.
قد يكون زخم الحي قد ألهم الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة ليؤلف مسلسل «زيزينيا» الذي استلهم شخوصه من العائلات التي تقطن الحي وجسد المجتمع السكندري إبان الحرب العالمية الثانية. كما ألهم شاعر القطرين خليل مطران، رائد الاتجاه الرومانسي في الشعر العربي، حيث كان يتردد على صالون ألكسندرا أفرينو بقصرها في زيزينيا، وكان أهم صالون ثقافي أدبي يجتمع فيه صفوة الأدباء ومنهم: فيلكيس فارس، وإيليا أبو ماضي، ونجيب الحداد، وأمين الحداد، وإسماعيل صبري، وكانت ألكسندرا أفرينو صاحبة مجلة «أنيس الجليس».
ولا يزال قصر أفرينو موجودا في ناصية مواجهة لـ«قصر المجوهرات الملكية» ويمكن تمييزه من طرازه المعماري الفريد وأسطح القصر المغطاة بالقرميد الأحمر والزخارف المعمارية الرائعة التي تعود للعصر الفيكتوري. ومن القصور الباقية أيضا قصر عائلة مونتزيني الفرنسية - الإيطالية التي هاجرت إلى أستراليا.
كذلك تعد شوارع زيزينيا متحفا مفتوحا يزخر بأنواع سيارات أميركية عتيقة الطراز من الأربعينات والخمسينات من طراز «البويك»، و«كاديلاك»، و«شيفروليه»، و«بونتياك».. وكأنها جولة في إسكندرية الأربعينات. وفضلا عن القصور الباهرة التي تزين أرجاء الحي فيضاف إليها روعة وبهاء جامع أحمد يحيى باشا الذي تم تشييده سنة 1920 فهو تحفة معمارية إسلامية فريدة.
بعض ملامح الحي ينقلها لـ«الشرق الأوسط» بعض سكان زيزينيا، فيقول محمد علي، حارس عقار كان يخص ثريا سوريا: «أعمل هنا منذ نحو 40 عاما، ويمكن أن أصف زيزينيا بأنها حالة عشق، فحينما أكون مهموما أجلس هنا وكأنني في الجنة، فهو أجمل منطقة في إسكندرية، أشعر هنا براحة شديدة خصوصا في ظل التعامل مع سكان الحي الذين هم من أرقى من عرفت».
ويشير إلى أن الحي كان يجمع قديما جميع لغات العالم (فرنسي ويوناني وإيطالي وإسباني وإنجليزي..)، ولم تكن هناك سيارة تقف على جانبي الطريق، فكل أصحاب القصور والفيللات هنا كانت سياراتهم بداخلها. ويذكر علي أنه عند ترميم «قصر المجوهرات الملكية» سادت حالة من الحزن إثر هدم سور القصر الذي جيء بالطوب الخاص به من رومانيا، وأن أهالي الحي كانوا يرمقون السور وهو يهدم بأسى، حيث حل محله الآن سور جديد. ويؤكد أن أغلب أصحاب القصور يهتمون بها ويقومون بترميمها والاستعانة بمتخصصين للحفاظ على طابعها وطرازها الفريد، إلا أن هناك قلة قليلة من الدخلاء تسعى لتخريب زيزينيا بهدم الفيللات وتشييد عمارات شاهقة.
يقول علي إن الكثير من الفنانين المصريين والعرب قد زاروا الحي، وقد صورت مشاهد لأعمال درامية وسينمائية كثيرة فيه، ومن أشهرها فيلم «امرأة هزت عرش مصر» للفنانة نادية الجندي، وكذلك صورت أفلام للفنان عادل أدهم وفاروق الفيشاوي ونور الشريف وعبلة كامل. بينما تقول الفتاة العشرينية جينا لمعي: «جدتي ممن سكنوا الحي وتأبى أن تتركه، وكنت أسمع أن الفنانة فاتن حمامة تقطن في شقة في عمارة مشهورة اسمها (زهراء زيزينيا) كانت تأتي إليها في فصل الصيف».
أما أميمة الزناتي، من قاطني الحي، فتقول: «أسكن في هذا الحي منذ 35 سنة وكان والدي يعيش أيضا في هذا الحي، ودائما ما كان يقول لي إن الحي كان مقصدا لأفراد من الجالية الروسية، لكنهم كانوا نادرا ما يحتكون بباقي الجيران». وتضيف أن معظم الأجانب تركوا زيزينيا بعد التأميم، وقصورهم تحولت إلى مدارس، كما أن شوارع الحي ارتبطت أسماؤها بأفراد أسرة محمد علي ولا تزال محتفظة برونقها وروعة تخطيطها ومنها شارع الأمير رياض والأمير حليم.
0 التعليقات: